فوضى خطوط الحدود وتأمين حدود ليبيا

 

GA

كتب: بيتر كول (مجلة شؤون دولية – العدد الأول، ربيع 2013)

– تواجه الحكومة قضيتين شائكتين تتعلقان بتركة النظام السابق: منطقة جنوبية مهملة اقتصادياً واجتماعياً يعتمد سكانها إلى حدٍّ كبير على التجارة عبر الحدود لتأمين معيشتهم، وقطاع أمني متهالك يفتقر إلى التنسيق المركزي الواضح والمعدات والروح المعنوية.

– تشكِّل المجتمعات المحلية التي تعيش في البلاد من العرب والبربر وجنوب الصحراء الكبرى، أحد مصادر انعدام أمن الحدود. فالتهميش الذي تعرّضت إليه هذه المجتمعات المحلية العابرة للحدود لفترة طويلة على يد الدولة دفعها إلى إنشاء شبكات من التبعية مع امتداداتها في الدول المجاورة التي تسهِّل عمليات الاتجار غير المشروع.

– بالنسبة إلى العديد من الجماعات المسلَّحة العاملة في المناطق الحدودية، تُعتبر العلاقات القَبَلية أقوى من ثقتها بالحكومة الجديدة أو ولائها لها.

– قامت الدوائر الحكومية والكتائب الخاصة العاملة باسم الدولة، والتي تفتقر إلى التنسيق في ما بينها، بإيجاد تسويات يشوبها الارتباك في محاولة للسيطرة على البلدات والمواقع الحدودية الليبية، إلا أن العلاقة في ما بينها غالباً ما تتسم بالتنافس، لا التعاون.

لا تزال حدود ليبيا غير مضبوطة إلى حد كبير، كما يشكّل تأمين الأطراف أحد أكبر التحدّيات التي تواجهها البلاد. ويتيح ضعف مراقبة الحدود لأسواق السلاح والبشر والمخدرات أن تزدهر، إلى جانب عمليات الاتجار غير المشروع اليومية بالوقود والبضائع، مع ما يترتّب على ذلك من عواقب وخيمة على المنطقة ككل. ولكي تتمكّن ليبيا من وضع استراتيجية فعّالة حقاً لأمن الحدود ينبغي عليها القيام بما لم تقم به أي حكومة ليبية من قبل، وهو تفكيك شبكة المصالح الاقتصادية والمحلية التي تغذي انعدام أمن الحدود.

الصراعات الحدودية الليبية .

أدى سقوط نظام القذافي إلى نشوء أزمة دائمة في ما يتعلق بضبط المناطق الحدودية الشاسعة لليبيا. وبعد نحو عام من انهيار النظام، لا تزال مساحات واسعة من الأراضي على طول الحدود الليبية البالغ طولها 4300 كيلو متر، من نواحٍ عدة، غير مضبوطة وربما غير قابلة للضبط. وخارج المراكز السكانية، لم تتمكن القوات المسلحة الليبية من السيطرة على الهجرة والتهريب الذي يتدفّق عبر البلاد.

 مع انهيار الجيش وقوات الشرطة إبان الاقتتال الذي شهدته ليبيا خلال 2011، حلت مكانهما أعداد كبيرة من الجماعات المسلحة، التي تصف نفسها بالكتائب التي تعمل باسم ثورة 17 فبراير.(1) 

وبما أن العديد من هذه الجماعات لم يشارك على نحوٍ واسع في القتال ضد قوات القذافي، فإن ولاءها بالكاد كان يتعدى القبائل التي جاءت منها، وهذا كان واضحاً بشكل خاص في المناطق الحدودية الليبية، التي كانت بعيدة عن المعاقل الثورية في بنغازي ومصراتة والجبل الغربي. تسبَّب الفراغ في السلطة الذي نجم عن غياب القذافي في نشوب صراعات محلية للسيطرة على المراكز الحدودية والتجارة عبر الحدود بين القبائل المتنافسة وأيضاً بين الحكومة المركزية والعديد من الكتائب.

وقد استولت الكتائب، التي جاء بعضها من قبائل نائية، بهدف فرض رؤيتها الخاصة لوظائف الدولة، على مراكز حدودية من القوات المسلحة الليبية ووزارة الداخلية، ثم انخرطت في أنشطة مراقبة الحدود الخاصة بها. وفي أماكن أخرى، تقوم القبائل الحدودية بالقتال من أجل السيطرة على طرق التجارة أو فقط بانتهاز الفرصة لتصفية حسابات قديمة مع أولئك الذين يرون أنهم غير ليبيين أو من أنصار القذافي. صحيحٌ أن أعمال القتل تراجعت، إلا أن المدن الحدودية لاتزال في حالة من الصراع المجمَّد، حيث ينحصر دور الجيش الليبي في إدارة ومتابعة عمليات وقف إطلاق النار الهشّة. ونتيجةً لهذا الاقتتال، أصبحت بعض القبائل الحدودية الليبية، مثل التبو والطوارق – وكلتاهما من المجموعات العرقية غير العربية التي تقطن جنوب الصحراء – أقل ميلاً من أي وقت مضى للثقة بالدولة أو التعاون معها. فازداد التهريب غير المشروع، وأصبحت البلاد أكثر خطورة وعدم قابلة للتنبؤ على صعيد المهاجرين والمتاجرين.

 يتسبّب عجز ليبيا عن السيطرة على حدودها بمشاكل كبيرة بالنسبة إلى جميع جيرانها. فتهريب الأسلحة والبشر الذي يعبر الأراضي الليبية، يتدفق بحرّية إلى حدٍّ ما من جميع أنحاء المغرب العربي، وذلك بفضل الجماعات العرقية وعلاقاتها الوثيقة بشبكات الإجرام المنظَّم، والتي تعمل على ربط المنطقة بعضها ببعض. وتبرز صعوبة هذا الوضع بشكلٍ خاص في مالي، حيث يقوم متمردو الطوارق بالتحالف مع الجماعات الإسلامية من أنحاء الساحل كافة باستخدام الأسلحة المشتراة في ليبيا للسيطرة على الجزء الشمالي من البلاد. كل هذا يؤثر سلباً على أمن أوروبا أيضاً، حيث تدخل البضائع المهربة والأشخاص إلى دول الاتحاد الأوروبي نفسها.

 كان نظام القذافي، على كل علاته، قادراً إلى حدٍّ ما خلال العقد المنصرم على ضبط ذلك التدفق إلى أوروبا. فقد كانت ليبيا، ولاتزال، أحد أهم مراكز التهريب إلى أوروبا، الأمر الذي يؤثر بشكل خاص على مالطا وإيطاليا، التي لاتبعد جزيرة لامبيدوسا التابعة لها أكثر من 600 كيلومتر عن شواطئ ليبيا.

خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، واجهت أوروبا تنامياً ملحوظاً في الهجرة غير الشرعية وتهريب المخدرات من غرب إفريقيا، الامر الذي دفع الاتحاد الأوروبي إلى مطالبة ليبيا وغيرها من الدول المغاربية بتشديد الرقابة على حدودها.

 وكسائر العديد من الأمور التي كانت موجودة في ليبيا قبل العام 2011، كانت الأجهزة الأمنية التي تراقب الحركة عبر الحدود تأتمر بأوامر القذافي. وعلى الرغم من أن منظومة القوانين كانت تتسم بالفوضى وعدم التنظيم، حتى أنها في بعض الأحيان كانت مسخَّرة لخدمة الأهداف المتناقضة لسياسة القذافي، فإنها كانت فعّالة إلى حد ما، كما أنها اكتسبت درجة معينة من قابلية التنبؤ التي فُقدت بعدما تمت الإطاحة بالنظام. قد تكون نوايا الحكومة الجديدة أفضل من القديمة – فقد أشاد أحد ضباط الهجرة المتمركزين على الشريط الساحلي الليبي بالتغيير في النظام كونه مكَّنه في نهاية المطاف من القيام بعمله بعيداً عن هيمنة القذافي على التهريب عبر منافذ الهجرة – إلا أن معرفتها بالقوى الفاعلة على الحدود الليبية وسيطرتها عليها أقل بكثير.

 لكن في الحقيقة، ما من حكومة ليبية سبق لها أن سيطرت بشكلٍ كامل على حدودها وعلى أعمال التهريب التي تمر عبرها. إذ ببساطة لم تتوفر الحوافز للقيام بذلك على الإطلاق، سواء بالنسبة إلى مسؤولي الحكم المحلي أو الشعب الليبي. بل إن إهمال الحكومة أو ممارستها للتمييز، دفع القبائل الحدودية، المحرومة من الاستفادة من الاقتصاد الرسمي، إلى الانخراط في التجارة غير الرسمية والتهريب. كما كان مسؤولو الحكم المحلي، الذين كانوا يُحرمون أحياناً من الترقيات الوظيفية المجزية في الحكومة، يشاركون في هذا الأمر بسبب الإغراءات المالية والأرباح التي يحققونها من التجارة غير المشروعة.

 لكي تتمكن ليبيا من إنشاء استراتيجية أمن حدود فعالة حقاً، يتعين عليها القيام بما لم تقم به أي حكومة ليبية سابقة: تفكيك شبكة المصالح الاقتصادية والمحلية الموجودة لدى قبائل الحدود الليبية. هذا يتطلب التصدّي للقضايا المجتمعية العويصة، والتي من بينها قضية المواطنة، إلى جانب تطوير بدائل قانونية لاقتصاد السوق السوداء. وسوف تحتاج قوات الحدود إلى إعادة هيكلة وتدريب شاملين، تقريباً من الصفر، بحيث يتسلم الجيش مهمة المراقبة من الجماعات المسلحة المختلفة التي تسيطر على حدود ليبيا حالياً. إن إجراء إصلاح حقيقي لمنظومة القوانين سيكون عملية طويلة، وهذا يعني أن المناطق الحدودية المضطربة في ليبيا ستبقى تمثل تحدياً بالنسبة لكل من ليبيا وأوروبا لفترة طويلة في المستقبل.

تركة القذافي

نظراً إلى عدم وجود حواجز مادية على الحدود الليبية – باستثناء البحر الأبيض المتوسط وحقول الألغام التي تمثل تركة الحروب التي خاضتها ليبيا مع تشاد في السبعينيات ومع مصر خلال الحرب العالمية الثانية – ولأن الإمكانيات التي سخَّرها القذافي للبنية التحتية والمراقبة كانت قليلة جداً، لم يكن في مقدور الأجهزة الأمنية الليبية المختلفة سوى رصد، وليس منع، حركة الهجرة والتجارة عبر الحدود. لكن قدرتها على القيام حتى بهذه الوظيفة تأثرت بالقضايا القديمة المتراكمة داخل قوات الأمن والتي لاتزال تعيق عملها حتى الآن.

في ظل حكم القذافي، كانت مهمة مراقبة الحدود تُنفَّذ من قبل إدارات متنافسة تعاني سوء التنسيق في مابينها وذلك في وزارات عدة. وقد أُنيطت إدارة المراكز الحدودية وتجهيز التأشيرات وجوازات السفر بإدارة الهجرة التابعة لوزارة الداخلية، في حين أن الجهة المُنظِّمة للجمارك، والمتمثلة في الإدارة العامة لمكافحة التهريب والمخدرات، كانت جزءا من وزارة المالية. كانت مسألة خفر الحدود البحرية والمراكز الحدودية مقسَّمة بالتساوي بين القوات البحرية وحرس السواحل البحرية ووزارة الداخلية، حيث إن كلاً من هذه الهيئات، على سبيل المثال، كان ينسق بشكل مستقل مع قوات الحدود الأوروبية. حتى وزارة الداخلية نفسها كانت مهمَّشة، حيث أن فروعها الإقليمية كانت تعمل بشكل شبه مستقل عن بعضها وعن الإدارة المركزية للوزارة في طرابلس.

وبناءً على ذلك، كان كل مركز حدودي وكل بلدة يتمتع بدرجة كبيرة من الاستقلال الذاتي. لم يكن سوى عدد قليل جداً من المسؤولين خارج المدن الرئيسية والموانئ لديهم أجهزة كمبيوتر، وبالتالي إن القدرة على الوصول إلى قواعد البيانات لوثائق السفر أو القوائم السوداء الدولية، على سبيل المثال، كانت غير متوفرة في بعض الأحيان.(2)  ونتيجةً لذلك، كانت هناك أجنحة عدة للسلطة داخل كل مركز. كانت المرافق تعاني من نقص شديد في الموارد؛ فقد كانت المراكز الحدودية أشبه بالأكواخ في بعض الأحيان، وتفتقر حتى إلى الكهرباء.

 أُنيطت بالجيش مهمة ضبط بعض المناطق الحدودية، وخاصة منطقة الويغ قرب الحدود مع النيجر وقاعدة معطن السارة الجوية القريبة من السودان، لكن هذا الأمر لم يوفّر أي شكل من أشكال السيطرة المركزية والمنسَّقة أيضاً. كان القذافي قد قام عمداً بتقسيم وتجزئة عمليات قوى الجيش والتسلسلات القيادية. لم تكن هناك وزارة دفاع، بل كانت فروع الجيش المختلفة تقوم بشكل منفصل بإرسال التقارير إلى القذافي شخصياً عبر لجنة مؤقتة للدفاع. كانت الكتائب المختلفة التي تتكوّن منها القوات المسلحة الليبية موضوعة ضمن قواعد منفصلة، حيث كان لكلٍّ منها ترددات اتصالات خاصة بها وتسلسلات قيادية مرتبطة بلجنة الدفاع المؤقتة. ففي حين أن الجيش الوطني الرسمي كان يتمركز في المناطق الشرقية، التي كانت تشكل المصدر الرئيس للمتطوعين فيه، كانت هناك كتائب أخرى متميزة عن غيرها، كونها تتمتع برواتب أعلى وتجهيزات أفضل.

 هذا التقسيم مكَّن القذافي من الهيمنة بسهولة على كل واحدة من الوزارات أو الإدارات المسؤولة عن تنفيذ مجال معين من السياسات. وقد أدى الافتقار إلى التنسيق والتسلسلات القيادية الواضحة إلى جعل القذافي صانع القرار المفوَّض الوحيد. بهذا الشكل يمكن أن تصبح إدارة الحدود وهمية ومتناقضة تماماً كما هي شخصية هذا الدكتاتور. مع ذلك، كان القذافي ناجحاً، بشكلٍ عام، في السيطرة إلى حدٍّ ما على الحدود.

في ظل الضغوط التي مارستها الدول الأوروبية، وخاصة إيطاليا، تمكّن القذافي من تعزيز أمن الحدود البحرية الليبية لمنع تهريب الأشخاص والبضائع إلى أوروبا. وقد حازت هذه الجهود زخماً سياسياً بعد إعلان القذافي في العام 2004 عن تخليه عن برنامج أسلحة الدمار الشامل، كما شهد العام 2007 توقيع اتفاق ثنائي بارز مع إيطاليا أُنشئت بموجبه دوريات بحرية مشتركة، مامكَّن القوات البحرية الليبية والإيطالية من تنسيق جهودهما. كما وافقت الشركات الإيطالية على تقديم معدات مراقبة الحدود. وبفضل الدعم الذي قدمه القذافي حدث تراجعٌ حاد في الهجرة غير الشرعية وتهريب المخدرات من الشواطئ الليبية إلى أوروبا وذلك بين عامي 2008 و2010.

بالإضافة إلى ذلك، قامت ليبيا بتشديد فرض قوانينها البالية الخاصة بالتدفقات عبر الحدود، إلا أنها لم تقم بإدخال تحديث جوهري عليها، حيث إن بعضها لم يشهد أي تغيير منذ خمسينيات القرن الماضي. في العام 2004، قامت ليبيا بزيادة الغرامات المفروضة على المهرِّبين والأشخاص الذين يتم تهريبهم، وعلى جميع الذين ينتهكون قوانين الهجرة، وفي العام 2007 شُدِّدَت القوانين الخاصة بعمل الأجانب.(3)  في 2010 قامت أيضاً بمضاعفة الغرامات المفروضة على أولئك الذين يدخلون أو يقيمون داخل الأراضي الليبية دون الحصول على الإذن المطلوب؛ فقد كان يتحتم على المهاجرين غير الشرعيين، سواء تم الاتجار بهم عمداً أم لا، إما دفع غرامة 1000 دينار ليبي (أي ما يعادل قرابة 800 دولار في الوقت الحالي) أو دخول السجن لفترة غير محددة.(4)  وقامت الحكومة أيضاً بإعادة تعريف قوانين الجنسية الليبية بهدف جعل المواطَنة الليبية تختلف عن المواطنة في باقي الدول العربية وذلك للمرة الأولى منذ 1954.

على الرغم من هذه التغييرات، لم تَقُم ليبيا بشيء يُذكر على صعيد مراعاة، أو الأخذ في الاعتبار، إصرار أوروبا على حقوق الإنسان للمهاجرين، أما القوى الأوروبية فلم تُلِحّ بشدة على مثل هذه القضايا الحسّاسة، في الوقت الذي كان يجري فيه إحراز تقدم خجول في مجالات أخرى من العلاقات مع القذافي. فقد كان المهاجرون الذين يتم إبعادهم من أوروبا يُتركون لمواجهة مصيرهم المجهول.(5)  هذا التشديد لمنظومة القوانين والأمن البحري في ليبيا كانت له فوائد جمة بالنسبة لأوروبا. فقد مكَّن هذا الأمر إيطاليا على وجه الخصوص من تنفيذ مايسمى بسياسة “الإبعاد” في مايو 2009 والتي سمحت للحكومة بإعادة المهاجرين غير الشرعيين مباشرةً إلى ليبيا ومن دون إجراء تقييم مستقل لطلبات اللجوء التي تقدموا بها، وذلك وفقاً لدبلوماسي إيطالي سابق. وكان الانخفاض الجذري الذي طرأ على أعداد القادمين إلى أوروبا، حيث انخفض عددهم إلى 4300 في العام 2010 بعد أن كان يزيد على 37 ألفاً في العام 2008، بمثابة المؤشر على مدى فعالية مثل هذه الاتفاقات بالنسبة إلى القوى الأوروبية.(6)

لكن القذافي لم يكافح المهرِّبين عبر إغلاق حدود ليبيا، بل قام بذلك عبر ممارسة الضغوط بشكل أساسي على الطرق البحرية المؤدية من ليبيا إلى أوروبا. لقد ضمنت أوروبا تعاون حكومةٍ كانت على ارتباط وثيق جداً بالاتجار غير المشروع لدرجة أنها تمكنت من التأثير عليه وضبطه، “مجفِّفةً بذلك منابع” تدفق المهاجرين إلى أوروبا وفقاً لمشيئة القذافي. وفي ظل توقف القرار السياسي إلى هذه الدرجة على أهواء ونزوات القذافي، وعلى استخدامه لمختلف فروع الأجهزة الأمنية سعياً لتحقيق الأهداف السياسية المختلفة، سادت الفوضى والإحباط في صفوف القوات المسلحة، حيث لم يكن أحدٌ يعلم تماماً ماهي السياسة “الرسمية”.

أحد الأعضاء السابقين في قوى الأمن الداخلي لدى القذافي، والذي كان منخرطاً في جهود مواجهة الهجرة غير الشرعية، عبَّر – خلال مقابلة أُجريت معه بعد انضمامه إلى حراك 17 فبراير الثوري – عن تذمره الشديد من التنسيق بين خفر السواحل ووزارة الداخلية والسجون العسكرية الذي كان سيئاً لدرجة أن بعض الذين تم القبض عليهم خلال محاولتهم عبور البحر قد أطلق سراحهم. وفي أكثر من مناسبة، حسب اعتقاد هذا الضابط، كانت التعليمات الصادرة إلى أحد الفروع تتعارض مع الإجراءات المتبعة من قبل فرعٍ آخر. كان مسؤولو الحكومة الليبية والدبلوماسيون على حدٍّ سواء يعتقدون أن قوارب التهريب المتجهة إلى أوروبا يُسمح لها بمواصلة الرحلة كلما كان القذافي يرى أن ذلك مناسباً. وقد عبَّر أحد الضباط الذي أجريت معه مقابلة عن اعتقاده في أنه كان يجري الإفراج عمداً عن بعض المهاجرين الذين يتم اعتقالهم ليعودوا مرة أخرى إلى أحضان تجار البشر الذين يعملون في ميناء مدينة زوارة، التي تشكل مركزاً رئيسياً للمهاجرين الذين يسافرون بحراً الى أوروبا؛ كما زعم أنه تم تجنيد بعضهم ضمن صفوف الجيش.

السوق السوداء الليبية

على الرغم من أن القذافي تمكَّن من وقف تدفق المهاجرين عبر الحدود البحرية لليبيا، إلا أن النظام لم ينجح أبداً في زيادة سيطرته على حدوده الجنوبية. كان هذا الأمر في جزء منه نتاج حسابات سياسية. فقد تحدّث أحد ضباط الشرطة في بلدة مرزوق الواقعة في أقصى الجنوب عن درجات متفاوتة من الالتزام في ملاحقة الجيش المتمركز في قاعدة الويغ العسكرية المجاورة لمهرّبي البشر القادمين من النيجر، حيث يقوم بتقديم النصح للمهربين حول السياسة المتبعة وفقاً لحسابات القذافي وأوامره في ذلك الوقت. لكن الفشل في السيطرة على الحدود الجنوبية عكَسَ أيضاً قضيةً هيكلية تتمثل في شبكة العلاقات الشخصية بين مسؤولي الحكم المحلي وبين وسطاء وممثلي القذافي الذين كانوا يشرفون عليهم ووجهاء القبائل المحلية وشبكات التهريب. سيكون من الصعب جداً على الحكومة الجديدة معالجة هذا النهج الراسخ في تخريب الدولة والسيطرة بشكل كامل على حدود البلاد.

 كان نقل البضائع والتجارة بها عبر الحدود – وهو أمر يتم عادةً من أجل هوامش الربح الكبيرة التي تتحقق عندما تكون هناك حركة مرور بين القبائل النائية – ولايزال الأساس الذي يقوم عليه الاقتصاد الليبي المحلي، الذي يتمتع بجذور أعمق بكثير من جذور الدولة الليبية نفسها. وفي الواقع إن منظومة القوانين المعمول بها في ليبيا حتى الآن لاتجرِّم بشكل واضح بعض جوانب اقتصاد الإتجار كما أنها لاتلتزم بشكلٍ كامل باتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الحدود الوطنية، وخاصةً في مايتعلّق بالتواطؤ مع السلطات المحلية.

 في جميع أنحاء دولة القذافي، كانت هناك مجموعة من الحوافز التي تدفع الجهات الفاعلة من طبقات المجتمع كافة تقريباً إلى المشاركة في السوق السوداء. وتقدِّم المقابلات، التي أُجريت مع مسؤولي الهجرة الليبيين والمهربين والمسؤولين المحليين، صورةً شاملة حول آلية عمل منظومة القوانين، علماً أنه ليس ممكناً دائماً التثبت من بعض النقاط. من حيث الجوهر، أجمع كل الذين تمت مقابلتهم على أن المسؤولين الحكوميين والسكان المحليين على حدٍّ سواء كانت لديهم الحوافز التي تدفعهم إلى السماح باستمرار التهريب. كان مسؤولو الحدود البرية يتولون بانتظام إيقاف وتفتيش المركبات عبر الحدود، سواء كان ذلك قانونياً أم لا، على مدى أيام عدة، لكن الدافع وراء إقامة هذه الحواجز كانت تحرّكه حوافز لفرض نوع من الضريبة – نظراً لأنه بهذه المدفوعات الصغيرة كان بإمكان المركبات إما تجاوز الحدود كلياً أو تعجيل عمليات التفتيش الجمركي – أكثر مما كانت تحرِّكه الرغبة في تطبيق القانون. وعلى الرغم من أن المسؤولين المحليين كانوا يقومون بعرقلة حركة المرور، فإن حياتهم ازدادت ثراءً بفضل استمرارها.

 اعتمدت حكومة القذافي على تمكين الأشخاص الموثوقين الذين، من خلال نيلهم ثقة القذافي، كان بمقدورهم التنقل كيفما يشاؤون في كل مستويات الجهاز الحكومي المجرد نسبياً من السلطات. كان أولئك الأشخاص في مواقع تمكِّنهم من الاستفادة من الاقتصاد غير الرسمي في المدن الليبية الكبرى والمراكز الإدارية. على سبيل المثال، كان العقيد مسعود عبد الحفيظ، محافظ مدينة سبها، التي كانت منطقة عسكرية في عهد القذافي، يقوم بجمع الرسوم الجمركية من المهرِّبين الذين كانوا يعملون ضمن نطاق سلطته، تماماً مثلما كان يفعل زعماء قبيلة الزوي العربية، الذين كانوا يحظون بدعم قوي من القذافي، في مدينة الكفرة.(7)  كما كان زعماء قبيلة القذاذفة أنفسهم يتحكمون بتجارة بعض السلع.(8)

 وعلى نحوٍ مماثل، كان لدى السكان المحليين أيضاً الكثير من الحوافز والفرص للتعاون والمشاركة في الإتجار عبر الحدود. ووفقاً لمقابلات أُجريت مع تجار ومهربين ليبيين في سبها في وقت سابق من هذا العام، وذلك على مستوى صغار الكسبة، كان من الطبيعي أن يقوم الليبيون الذين يسافرون جنوباً بجلب كميات زائدة من الوقود (الذي يحظى بدعم حكومي قوي) والغذاء معهم، ثم العودة بسلع بيضاء أو مخدرات أو سجائر أو كحول، وكانت توجد قيود كبيرة على توزيعها في ليبيا. أما المشاريع التجارية الأكبر حجماً التي تتاجر بالغذاء والوقود فكان بإمكانها تحقيق أرباح كبيرة للغاية، إلا أن ذلك كان يتطلب المزيد من الاستثمارات الكبيرة. في جنوب البلاد، كانت الرحلات عبر الحدود تستغرق من خمسة عشر يوما إلى شهر، وذلك حسب وجهتها، حيث كان المهربون الأكثر التزاماً يتمكنون من تحقيق رحلتين في الشهر كحد أقصى. ففي حين أن الرحلة الواحدة كان يمكن أن تحقق ربحاً صافياً يتراوح بين 100 إلى 10,000 دينار ليبي أو أكثر (أي قرابة 8000 دولار)، فقد كان من المفترض، كما أوضح الذين تمت مقابلتهم، أن يتم توزيع هذا المبلغ على ثلاث أو أربع من العائلات المشاركة في الرحلة، إلى جانب دفع أجور مخابئ التهريب. فكانت الأرباح التي يتم تحقيقها ضئيلة نسبياً مقارنةً بالخطورة والوقت اللذين يتطلبهما القيام بالرحلة (حيث كانت الخطورة الأكبر تتجلى في قطّاع الطرق)، مع أنها كانت تفوق كثيراً البضع مئات من الدنانير التي يتم الحصول عليها شهرياً من خلال العمل في وظيفة حكومية.

 كان الوضع الاجتماعي والاقتصادي لقبيلتي التبو والطوارق، على وجه الخصوص، هو الذي سهَّل مثل هذه الأنشطة. فقد كانت هاتان القبيلتان تقيمان علاقات اجتماعية وتزاوج مع أقاربهما من العشائر الأخرى في مختلف القبائل والبلدان، الأمر الذي أدى إلى تعزيز أواصر الصلة مع أولئك الأقارب في تشاد والنيجر ومالي والجزائر وموريتانيا. كان التبو والطوارق يتنقلون بانتظام عبر الحدود لزيارة أقاربهم ونقل قطعان الماشية للرعي أو للبيع. وبهذا الشكل كان من الطبيعي بالنسبة لهم أن يتجنبوا المرور عبر المعابر الحدودية الرسمية، وذلك لتجنب التأخير لبضعة أيام. بالنسبة إلى بعض أعضاء هذه الجماعات، وكذلك القبائل العربية، مثل أولاد سليمان وورفلة، التي كان لها أقارب أيضاً في جميع أنحاء الساحل، فإن هذا النوع من التنقل تحوَّل بسهولة نسبياً إلى نقل للبضائع ذهاباً وإياباً. بشكلٍ عام يكون لدى المراكز الحدودية علم بهذه التنقلات، وفي أغلب الأحيان لاتكون الممرات غير القانونية بعيدةً عن الطرقات الرسمية أو المراكز الحدودية.

 وهكذا حظي الاقتصاد غير الرسمي باعتراف مسؤولي الحدود، الذين قاموا حتى بتنظيمه، لكن من دون السيطرة عليه. كان بعض المسؤولين يستفيدون من العمولات في حين كان السكان المحليين يستفيدون من العبور السريع للبضائع. في الواقع كان هناك متطوعون من التبو والطوارق يعملون برتب متدنية في الشرطة والجيش، حيث كانت القضايا ذات الصلة بالاقتصاد والمواطنة تشكِّل قاسماً مشتركاً بين العديد من هؤلاء وبين أقاربهم العاملين في اقتصاد السوق السوداء. وكان طبيعياً أن يتبيَّن أن هذا النوع من التجارة غير المشروعة مربحٌ أكثر من العمل في الوظائف الحكومية، وهو ما ساعد على غرس نظام السوق السوداء بالكامل داخل المجتمع الليبي.

 كان اقتصاد الاتجار بالبشر يتمتع هو الآخر بأرضية راسخة، فكان يشكل مصدراً للدخل من خلال التعرفة الجمركية إلى جانب كونه مجمَّعاً للأيدي العاملة ومصدراً حتى للمتطوعين في جيش الدولة. في السابق كان المتاجرون بالبشر يستخدمون بعض الطرقات التي تُعتبر أكثر رسميةً واستخداماً من غيرها للدخول إلى ليبيا. كان المهاجرون على الحدود الجنوبية يدخلون إما من الويغ والقطرون إذا كانوا قادمين من النيجر وغرب أفريقيا، أو عبر وادٍ خاص في جبال تيبستي إذا كانوا قادمين من تشاد، أو يدخلون إلى الكفرة إذا كانوا قادمين من السودان وشرق أفريقيا. وبعد وصولهم إلى هناك، كان المهاجرون يوضعون في مخابئ خاصة بالتهريب، حيث يقومون بالعمل عادةً لتوفير الأموال اللازمة لمتابعة الرحلة وصولاً إلى الساحل الشمالي، وبعد ذلك إما يستقرون هناك أو ينخرطون في العمل لتوفير الأموال اللازمة لمتابعة الرحلة. ولذلك لم تكن شبكات الاتجار راسخة الجذور وحسب، بل كانت مندمجة ضمن الاقتصاد المحلي. ومع أن الدولة غالباً ما كانت تعلم بوجودها، فإن الحوافز لتضييق الخناق عليها لم تكن دائماً واضحة. وقد استُخدمت العمالة غير القانونية أيضاً لتوفير العديد من الخدمات الحكومية التي لم يكن المواطنون الليبيون يقبلون بالاقتراب منها.

 مع سقوط حكومة القذافي، ازداد الاتجار بالمهاجرين بشكل ملحوظ. وفي حين أن بعض الجماعات المسلحة على الحدود كانت تتسامح مع الاتجار بل وتشارك فيه، فإن بعض الكتائب الثورية كانت تقوم بعمليات اعتقال وتحاول تعطيل هذه التجارة. وعلى نحوٍ مماثل، حصل ازدياد حاد في تجارة السلع غير المشروعة، والتي كان من بينها الأسلحة التي غُنمت من مخازن جيش القذافي، وهو ما تسبَّب أيضاً بإشعال الاقتتال بين الجماعات العرقية في الجنوب.

 الحوافز نفسها التي تسمح بالتجارة بالسلع والناس عبر الحدود – وهي عدم وجود فرص عمل بديلة، وضعف المرتبات الحكومية، ووجود علاقات قبلية قوية عبر الحدود، وحجم الإنفاق والجهد اللازمين لمراقبة الحدود البرية الليبية بشكلٍ كامل – والتي كانت موجودة في عهد القذافي، لا تزال قائمة اليوم. ونظراً إلى ندرة البدائل الاقتصادية بالنسبة إلى العديد من سكان جنوب ليبيا، فإنه من المستبعد أن يتغيّر هذا الوضع في المستقبل القريب. كل ذلك يجعل تأمين المناطق الحدودية لليبيا في غاية الصعوبة.

سقوط النظام وعواقبه

أدى انهيار نظام القذافي إلى زعزعة وضع استمر لمدة اثنين وأربعين عاماً. فقد هرب حكام الأقاليم، في حين أن كل القبائل التي استفادت بشكل أو بآخر من سياسات القذافي، مثل قبيلة القذاذفة أو الطوارق، وجدت نفسها أمام تحديات وتنافس من الفئات التي كانت محرومة سابقاً. كما شهد الجنوب تدفقاً للجماعات المسلحة من الشمال، وهي جماعات لم تكن تتمتع بالتنظيم والانضباط الجيد، حيث حاول بعضها تولي مراقبة وضبط التهريب. أدى ذلك إلى نشوء حالة من الغموض الذي كانت له عواقب وخيمة سواء بالنسبة إلى قدرة الدولة على إدارة الحدود الليبية أو بالنسبة إلى مصير القبائل التي تعيش هناك وتشارك في الأنشطة العابرة للحدود.

 حاولت سلطات إدارة الحدود التي صمدت في وجه هذه التغيرات مواصلة عملها بشكلٍ شبه طبيعي، على الرغم من مقتل أو هروب عائلة القذافي ونخبة كبيرة من جنرالات وضباط الجيش وكبار صناع القرار في وزارة الداخلية. لكنهم واجهوا تحديات من قبل مختلف الجماعات المسلحة التي سيطرت على نقاط العبور الحدودية وذلك مع انسحاب أو انهيار قوات القذافي. وقد جاءت سيطرة المتمردين على أولى الموانئ في الشرق – وكان بينها مطار بنغازي وميناء طبرق ومعبر السلوم الحدودي البري – مباشرةً بعد انشقاق الفرقة الشرقية من الجيش الوطني، وذلك قبل أن تتوفر لدى المجموعات المدنية المسلحة فرصة لتجميع صفوفها. ولكن بعد ذلك، ومع أفول دور الجيش الوطني خلال معظم أعمال القتال، سقطت الحدود والموانئ الأخرى بيد الجماعات المدنية.

 لم يكن بإمكان الحكومة المؤقتة في ليبيا، المتمثلة بالمجلس الوطني الانتقالي، فعل الكثير للتأثير على نشاط هذه الجماعات، كما لم تكن تستطيع أن تحل محلها. وكإجراء مؤقت، قام وزيرا الداخلية والدفاع في المجلس الوطني الانتقالي بتسجيل المجالس المحلية العسكرية إلى جانب عدد هائل من الكتائب المنتشرة عبر المناطق الحدودية الليبية والمصادقة عليها بشكلٍ رسمي. لكن في الواقع، كان هؤلاء في بعض الأحيان عبارة عن مجموعة من الشباب المحليين، الذين سبق لبعضهم أن تدرب عسكرياً، حيث قاموا بتوحيد جهودهم لحماية مدنهم من أي مخاطر يمكن أن تحدق بهم.

 أما الكتائب التي تشكلت وحاربت خلال حراك 2011 للإطاحة بالقذافي فكانت مختلفة تماما. إذ إن تلك الكتائب، التي كانت متمركزة أساساً في بنغازي ومصراتة والزنتان و مؤخراً في طرابلس، اندمجت مع بعضها مشكلةً بذلك ائتلافات كبيرة وحسنة التنظيم ومنتشرة في جميع أنحاء البلاد.(9)  وقد انتقلت هذه الائتلافات إلى المناطق النائية في وسط وجنوب ليبيا بهدف حماية البنية التحتية الرئيسية ومراقبة النزاعات التي بدأت تظهر ضمن القبائل الحدودية. وبحلول أبريل 2012، أضفت هذه الكتائب صفة رسمية وشرعية على عملياتها بالتعاون مع وزارة الدفاع، حيث أطلقت على نفسها اسم قوات درع ليبيا.(10)  حاول المجلس الوطني الانتقالي وقوات درع ليبيا بدورهما دمج المجموعات المحلية المرابطة على حدود ليبيا ضمن “حرس الحدود”. لكن الجماعات المسلحة التي تسيطر على حدود ليبيا كانت تفتقر إلى نوع من الإدارة المركزية والقيادة العسكرية المعترف بها، وذلك بعكس قوات درع ليبيا والكتائب الثورية في مصراتة وبنغازي والزنتان. وفي ظل غياب مثل هذه الهياكل، فإن أي مشروع يهدف إلى تنسيق عمل هذه المجموعات المحلية لم يكن له معنى من الناحية العملية، ولاسيما بالنظر إلى هزالة البنية التحتية والاتصالات المتاحة على الحدود الليبية النائية. وفي حين تمكَّن يوسف المنقوش، قائد الأركان الجديد للقوات المسلحة، على مدار العام 2012 من فرض سلطته التنفيذية على العمليات الميدانية لقوات درع ليبيا، فإنه لم يتمكن من ممارسة هذا الأمر على الجماعات المسلحة المرابطة على الحدود. كان هذا يعود أيضاً إلى أن المجلس الوطني الانتقالي نفسه امتنع عن إعطاء المنقوش السلطة القانونية لكبح جماح تلك القوات، فقد كانت هناك خشية من أنه إذا أُعطيت تلك السلطة لرئيس الأركان فإنه سيصبح قوياً جداً بالمقارنة مع وزارة الدفاع الوليدة.

 وفي فبراير، قام المجلس الوطني الانتقالي، عبر قانونه الشامل الذي يحمل الرقم 11، والذي أعاد تحديد العلاقة بين وزارة الدفاع ورئيس الأركان، بتعيين نائب وزير الدفاع، الصديق مبروك، رئيساً لحرس الحدود – حيث أذنت الوزارة لوحدات من المدن الحدودية المحلية، مثل مرزوق وزوارة والكفرة وأماكن أخرى، كي تعمل باسمها.(11)  هذا الأمر أضفى على الجماعات المسلحة التي تسيطر على المراكز الحدودية المحلية مظهراً من الشرعية، حيث تم تسجيل تلك المراكز ووضعها اسمياً تحت سلطة وزارة الداخلية، علماً أن مثل هذه الشكليات لم تكن تعني شيئاً يُذكر من الناحية العملية. وفي الوقت نفسه، سُمح لإدارات وزارة الداخلية المسؤولة عن الإجراءات الإدارية مثل تفتيش وثائق الجمارك والسفر، في معظم الأحوال، بالعودة إلى العمل. هذا الوضع، مع أنه كان غير مرضٍ، مكَّن المجلس الوطني الانتقالي من حفظ ماء وجهه تجاه الجماعات المسلحة التي تسيطر عملياً على الأراضي الليبية.

 لكن القيادة والسيطرة التي مارسها مبروك على حرس الحدود، وهذا باعتراف وزير الدفاع نفسه في المقابلة التي أجريت معه في أبريل 2012، كانت شكلية في أغلب الأحيان.(12)  فقد كان منح التفويض إلى وحدات الحرس بمثابة تسوية سياسية مؤقتة إلى حد كبير، وذلك من أجل إرضاء القبائل المحلية المسيطِرة على المراكز الحدودية، ولم يكن يشكل مسعىً حقيقياً لبناء قوة فاعلة. ولم يساعد في هذا الأمر حقيقة أن وزارة الداخلية وإدارة الهجرة التابعة لها ظلتا تعانيان حالةً من الفوضى التنظيمية، في ظل إزاحة صناع القرار الرئيسيين والافتقار للمعدات وانعدام التواصل بين الوحدات المركزية والإقليمية.

 ونتيجةً لذلك، أصبحت حدود ليبيا تخضع إلى إدارة مزدوجة وموازية، حيث تقوم الإدارات الحكومية الرسمية القديمة بدراسة الاقتراحات، في حين تتولى الشبكات المحلية مراقبة أو تنفيذ أنشطة إدارة الحدود المزدوجة وذلك جنباً إلى جنب مع تلك الإدارات. ونتيجةً لسوء الإدارة خلال سنوات حكم القذافي، أصبح كل مركز عاجزاً عن الاتصال بأي شكل من أشكال القيادة المركزية في وزارة الداخلية، وهذه المشكلة تفاقمت بفعل أن الوحدات النظامية التي تعمل حالياً في تلك المراكز لم تكن تثق بالقنوات الرسمية. وبالتالي كان كل مركز يعمل بمفرده، مقدماً فروض الطاعة للقوى المحلية. وفي الحدود البرية النائية، وخاصةً تلك الموجودة في الجنوب والتي كانت تتدفق عبرها معظم عمليات الإتجار غير المشروع بالبشر والبضائع، كانت وزارة الداخلية إما عاجزة عن نشر أي عنصر تابع لها، أو أنها كانت تحظى بتمثيل رمزي فقط.

 استغلت الجماعات المسلحة هذا النقص في القيادة الرسمية لكي تبسط سيطرتها على الأراضي والمراكز الحدودية. فقد قام المقاتلون المدنيون في مصراتة، خلال الحصار المطوَّل لمدينتهم في أبريل 2011، بفرض سيطرتهم على موانئ ومطارات مصراتة. وبعد سقوط طرابلس في أغسطس 2011، سيطر مقاتلو الزنتان على المطار الدولي.(13)  أما مقاتلو زوارة فقد استولوا، وفقاً لسكان زوارة ورقدالين وجميل، على معبر راس جدير الحدودي مع تونس – الذي يُعتبر أحد أكثر معابر البلاد ازدحاماً – من قوات القذافي أثناء انسحابها، في حين سقطت المراكز الحدودية الأخرى بأيدي جماعات مختلفة، مثل قبيلة التبو.

 وقد تمكَّنت وزارة الداخلية من وضع موظفي جمارك وضباط هجرة في راس جدير، لكن نقاط التفتيش التابعة لها كانت تُدار من قبل كتائب مدينة زوارة القريبة. وقد تكرَّر الأمر نفسه في مناطق الحدود البرية الأخرى. حاول المجلس الوطني الانتقالي، على مدار عامي 2011 و2012، سحب بعض الجماعات المسلحة من الموانئ والمطارات الرئيسية لكن من دون جدوى. والجدير بالذكر أن المحاولات التي بُذلت لسحب الفرق العسكرية التابعة لزوارة من راس جدير قوبلت بمعارضة عنيفة. كما تعثَّرت مراراً وتكراراً محاولات إخراج كتائب الزنتان من مطار طرابلس، ومع أن تلك القوات انسحبت فعلاً في مايو، إلا أنها استبدُلت بكتائب ميليشياوية أخرى من مصراتة. (14)

 أنشأت زوارة، على سبيل المثال، وحدة “حرس حدود” خاصة بها في أواخر مارس 2012 بالاشتراك مع جماعات مسلحة أخرى مؤيدة بقوة للثورة من نالوت والزاوية، وذلك بهدف تغطية معبر راس جدير والمنطقة الصحراوية المحاذية له من الجهة الجنوبية. فقد قامت الوحدات التابعة لزوارة بإقامة نقطة تفتيش في العسة، وهي منطقة تقع في الأراضي التي تُعتبر تابعة لبلدة رقدالين المجاوِرة والمنافِسة. وعلى طريقة أبناء زوارة، فقد انخرط أبناء رقدالين أيضاً في أعمال التهريب عبر الحدود مع أقاربهم في تونس. فقام رجال من رقدالين بمهاجمة وأسر آخرين من زوارة، الأمر الذي أدّى إلى اندلاع قتال بينهما دام ثلاثة أيام في أوائل أبريل 2012. في الوقت نفسه، تم تشكيل وحدة مماثلة في الجنوب في منطقة مرزوق جنوب ليبيا، ما أدى مرة أخرى إلى إثارة شكوك وتوتر عميقين مع الجماعات المحلية المسلحة التابعة للتبو، وأيضاً مع الرجل الذي كُلِّف في البداية بتجميع وحدة حرس الحدود، عبد الوهاب القايد، والذي كانت له خبرة سابقة في الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة. (يُذكر أنه في أغسطس 2012، حصل القايد على مقعد في مؤتمر الشعب العام الليبي، وهو المؤسسة الوريثة للمجلس الوطني الانتقالي، تاركاً فراغاً في وحدة حرس الحدود الجنوبية).

لم ينجم القتال عن محاولات الجماعات المسلحة للسيطرة على ممرات التهريب وحسب، بل أيضاً عن القيام باعتقال المهربين بحماسة بالغة. على سبيل المثال، في شهر مايو، أدى اعتقال مهرب وقود تونسي بالقرب من زوارة على أيدي مجموعة مسلحة حاولت مصادرة الوقود وسيارة المهرِّب إلى اندلاع مظاهرات بالغة الشدة بين صفوف التونسيين، الأمر الذي دفع الحكومة التونسية إلى إغلاق المعبر الحدودي. كما أدى حصول مناوشات أخرى على معبر وازن ذبيحة على الحدود مع تونس في أغسطس إلى إغلاق ذلك المعبر، الذي كان معزّزاً بالجماعات المسلحة في ذلك الوقت.

وقد نجحت ليبيا في إحراز بعض التقدم الدبلوماسي مع جيرانها بشأن توقيع اتفاقات ثنائية جديدة متعلقة بأمن الحدود. ففي فبراير 2012، توصلت ليبيا إلى اتفاق ثلاثي مع تشاد والسودان حول مراقبة الحدود والأمن،(15)  ثم أتبعته باتفاقين مماثلين مع الجزائر في مارس وأبريل.(16)  كما وقعت صفقة أخرى مشابهة مع تونس في مارس،(17)  لكن حتى الآن لم يتم التوصل إلى مثل هذا الاتفاق مع النيجر، والتي لاتزال تستضيف عدداً من أعضاء النظام الليبي السابق المنفيين. لكن في ظل عدم وجود جيش متماسك أو وزارة داخلية لتنفيذ هذه الاتفاقات، فإن قيمتها تكاد لا تتجاوز قيمة الورق الذي كُتبت عليه.

في حقيقة الأمر لا الدولة ولا الجماعات المسلحة غير النظامية تمتلك التكنولوجيا أو الخبرة لمراقبة حدود ليبيا المفتوحة بالشكل المطلوب. يجب على الحكومة الجديدة أن تبدأ بمعالجة بعض المظالم المحلية العويصة التي تتسبب بديمومة هذا النظام المنهار.

المعارضة العرقية وضبط الحدود

مع محاولتها استعادة السيطرة على حدودها، يجب على ليبيا الاهتمام بآمال ومخاوف عدد كبير من سكانها المتواجدين عبر الحدود في الجنوب – ولاسيما قبيلتا التبو والطوارق، اللتان تشكلان الأقليات غير العربية في منطقة الساحل الليبية.

 لقد ولّدت النزاعات الطائفية التي اندلعت خلال 2011-2012 عبر الحدود الجنوبية الطويلة لليبيا الكثير من القلق بين صفوف التبو والطوارق. في كلتا الحالتين لجأت هاتان القبيلتان إلى أقاربهما كشبكة أمان اجتماعي، ومع أنهما اتخذتا مواقف متعارضة خلال الثورة، فإن كلتا القبيلتين وصل بهما الحال إلى فقدان الثقة كلياً بما تمخض عن تلك الثورة. وتمثّلت ردود أفعالهما بالحفاظ على الجماعات المسلحة التابعة لهما، وعلى تنقلهما الحر عبر الحدود، وأيضاً على استقلالهما الذاتي.

 هذا الوضع، الذي أدى إلى انعدام تعاون هاتين القبيلتين سواء مع الجيش الليبي أو مع الكتائب الثورية، جعل فكرة ضبط الحدود أقرب إلى الخيال أو الحلم. هذا وتعترف كلتا القبيلتين بمنتهى البساطة أن الحدود من الناحية العملية مفتوحة على مصراعيها، ولكن مالَم يتم الاهتمام بمصالحهما المحلية، فإنهما ليستا مستعدتين للمساعدة في معالجة مصالح الدولة الليبية في تأمين هذه الحدود.

تاريخ من الإقصاء

يبلغ تعداد قبيلة التبو قرابة 350 ألفاً ينتشرون في جنوب شرق ليبيا وشمال تشاد والنيجر، في حين يُقدَّر تعداد قبيلة الطوارق بنحو 1.2 مليون نسمة يتوزعون على مالي والنيجر والجزائر وليبيا وبوركينا فاسو (لاتوجد في ليبيا بيانات إحصاء وافية عن الأعداد الإجمالية للتبو أو الطوارق). في الوقت الحاضر، يسيطر التبو بشكلٍ فعال على جزء كبير من المناطق الحدودية في الجنوب، والتي تمتد من الكفرة في أقصى الشرق إلى القطرون والويغ جنوبي سبها. ومع أن شبكاتهم واسعة النطاق، فإن مكانتهم داخل المجتمع الليبي موضع خلاف.

في العام 1954، وبعد فترة وجيزة من تأسيسها كدولة مستقلة في العام 1951، تم تنفيذ التعداد السكاني الأول والوحيد لليبيا،(18)  وفي العام نفسه وضعت الدولة شروطاً للجنسية الليبية والمواطنة، وهذه الشروط لاتزال إلى حد كبير من دون تغيير، وهي تتلخص في أن الأمر يتوقف على نسب الأبوين أو على الولادة في الإقليم أو على كليهما معاً. وبما أن قسماً كبيراً من السكان كانوا أميين عندما دخل قانون المواطنة حيز التنفيذ، كان الإثبات يتمثل في تقديم “دفاتر عائلة” مكتوبة بخط اليد، حيث لاتزال الأسر الليبية تحتفظ بها حتى هذا اليوم (وقد تم استخدامها، على سبيل المثال، في تسجيل الناخبين خلال انتخابات 2012). لكن بالنسبة إلى سكان التبو والطوارق الرحَّل والمهمَّشين، فإن عدداً قليلاً منهم فقط كانوا يتمتعون بدرجة كافية من الاستقرار الذي يمكِّنهم من الحصول على دفاتر عائلة. ونتيجةً لذلك، لاتزال أعداد كبيرة منهم من دون أوراق ثبوتية.

وقد أدت الاختلافات الثقافية والعرقية إلى زيادة إقصاء التبو والطوارق عن الدولة الحديثة، ولاسيما تقليد التزاوج ضمن العائلات التي تنتمي إلى المجموعة العرقية نفسها، مع أنها تكون منفصلة عن بعضها على صعيد الجغرافيا والسلالة. فقد أضعف هذا العرف من قدرة هاتين القبيلتين على الاندماج في المجتمع العربي الليبي، علماً أن بعض أبنائهما حققوا قدراً من هذا الاندماج، من خلال إما التعليم والعمل في إحدى القطاعات كقطاع النفط أو الجيش أو من خلال الخدمة لدى إحدى العائلات (والتي يصبح بموجبها ابن قبيلة التبو أو الشخص الملتزم بخدمة عائلة معينة جزءاً من نسيج قبيلة أو مدينة معينة). (لكن هذه الحالات لاتغيّر شيئاً من النظرة السلبية لليبيين تجاه أي من هاتين المجموعتين العرقيتين أو تجاه قضايا الإقصاء التي تواجهانها). وقد زاد ذلك من صعوبة أن يتمكن الطوارق والتبو من إثبات مواطنتهم الليبية بشكل قاطع وفق قوانين صيغت أساساً ضمن السياق الثقافي العربي. فضلاً عن ذلك، وفي ظل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية الوثيقة التي تجمع التبو والطوارق مع نظرائهم في البلدان الأخرى في المنطقة، فقد أصبح يُنظر إليهم بشكلٍ متزايد على أنهم “الآخر” وذلك من قبل الليبيين العرب، وحتى من قبل دولة القذافي. على سبيل المثال، كانت كتب التاريخ التي وُضعت في عهد القذافي تعترف بالأصول الأمازيغية للطوارق والليبيين البربر، بينما تتجاهل كلياً قبيلة التبو؛ ويقول العديد من الليبيين الذين تمت مقابلتهم إن التبو كانوا يُعتبَرون “أفارقة” و”تشاديين” و”غير ليبيين”. ويتطلّب وضع حد لهذا الوضع تعاطياً حقيقياً مع القضايا الجوهرية المتمثلة بإعادة دمج قبيلتي التبو والطوارق.

قبيلة التبو

كانت قبيلة التبو في السابق تؤيد وتدعم الجيش الليبي – فقد كان الحرس الشخصي للملك إدريس، الذي حكم ليبيا من 1951 حتى 1969، يضم العديد من المجندين من هذه القبيلة. أما انعدام ثقة الجماعات المسلحة التابعة للتبو بالجيش الليبي والحكومة فإنه يشكل تطوراً حديثاً نسبياً، وهو ناجم في جزءٍ كبير منه عن الآثار التي خلَّفها تدخل القذافي في تشاد من 1978 حتى 1987.

 في السبعينيات، عرض القذافي على الذين لايملكون أوراقاً ثبوتية من قبيلة التبو طريقة سهلة تمكِّنهم من الحصول على الجنسية الليبية في مقابل الحصول على دعمهم السياسي لمطالبة ليبيا بضم قطاع أوزو – وهي منطقة تقع على طول الحدود بين ليبيا وتشاد وتشمل جزءاً كبيراً من الأراضي التي يستوطنها سكان التبو. احتل القذافي هذا القطاع في العام 1972، وبحلول 1977، كانت ليبيا تقدّم الدعم للمتمردين التشاديين من التبو ضدّ الحكومة التشادية في نجامينا.(19)  في غضون ذلك، قامت الحكومة الليبية، ومنذ العام 1973 فصاعداً، بمنح الجنسية للكثير من أبناء التبو الذين لايملكون أوراقاً تثبت مواطنتهم، ومن دون التحقق مما إذا كانوا ليبيين حقاً أم لا، وذلك شريطة أن يتم تسجيلهم في قطاع أوزو، الأمر الذي عزَّز بالتالي المطالب الليبية بذلك الإقليم وشجَّع جيلاً جديداً من أبناء التبو من ذوي الأصول التشادية على الدخول في القوات المسلحة واكتساب الجنسية الليبية.

تبدلت حظوظ التبو في أعقاب انهيار التحالف السياسي بين القذافي ومتمردي التبو التشاديين. وفي العام 1978، وبعد أن قامت القوات الفرنسية المتمركزة في تشاد بردهم على أعقابهم، قام زعيم متمردي التبو، غوكوني عويدي، بطرد المستشارين العسكريين الليبيين من قطاع أوزو والتقرب السياسي من فرنسا. وعلى الرغم من أن القذافي وعويدي واصلا محاولات التعاون في مابينهما بعد دخول المتمردين في حكومة وحدة وطنية في تشاد العام 1980، فإن العلاقات بينهما تدهورت بسرعة بحلول 1981. ومع التزايد المستمر للانتشار العسكري الليبي في تشاد، توجَّه القذافي إلى العناصر العربية المتواجدة داخل حكومة الوحدة بهدف استمالتها لمساندته في مواجهة التبو، الذين كانوا قد أصبحوا أيضاً أعضاء في تلك الحكومة. وبحلول منتصف الثمانينيات كان القذافي، الذي كان لايزال يحاول تعزيز وجوده العسكري في أوزو، يخوض مواجهة مباشرة مع غوكوني عويدي وقبيلة التبو في ماعُرف بحرب تيبستي.

ولأن صلات الدم بين التبو الليبيين والتشاديين كانت قوية جداً، فقد حتَّمت الحروب التشادية على حكومة القذافي أن توقف دعمها الأولي للتبو الليبيين، والسعي بدلاً من ذلك إلى “تعريب” الجنوب الليبي. في الثمانينيات، بدأت الحكومة الليبية بتشجيع القبائل العربية الليبية التي استقرت في تشاد والنيجر – ولاسيما قبيلتا أولاد سليمان وورفلة – على العودة إلى الوطن. وفي سبها، استقرت هذه المجموعات ضمن مدن صفيح كبيرة وعبَّرت بصخب عن دعمها لسياسات القذافي وتدخلاته في شؤون الساحل. أما في الكفرة فبدأ القذافي برعاية قبيلة الزوي، وهي مجموعة عربية خاضت معارك طويلة مع التبو حول الموارد المائية والأراضي الزراعية. وقد هُدمت أحياء التبو في الكفرة وسبها، واضطر السكان للانتقال إلى الأحياء الفقيرة في أطراف المدن أو حتى جنوباً داخل الصحراء. ودخل اللاجئون التشاديون البلاد، ما أدى إلى رفع وتيرة التوترات الطائفية. والأسوأ من ذلك هو أنه بعد أن حصلت تشاد على قطاع أوزو في العام 1994 بحكم من محكمة العدل الدولية، وجد سكان التبو الذين تم تسجيلهم في ذلك القطاع بأن أوراقهم الثبوتية قد جُمِّدت، ماجعلهم مهمَّشين حتى يومنا هذا، حيث يعيشون في أحياء فقيرة شبه قانونية، ولايستطيعون تأمين وظائف جديدة. أما أولئك الذين كانت لديهم وظائف حكومية منخفضة الأجر فكانوا يحرصون على الاحتفاظ بها لتجنب الترحيل.

 هذا التاريخ من التمييز والتلاعب السياسي يبرز أهمية موقف التبو اليوم. وقد أدت الخطوات التي قامت بها حكومة القذافي في العام 2007 لسحب الجنسية من التبو في الكفرة إلى تشكيل مجموعة معارضة جديدة، وهي جبهة إنقاذ التبو الليبيين بقيادة عيسى عبد المجيد منصور، وفي العام 2008 نشبت انتفاضة كبيرة في الكفرة قُمعت من قبل الجيش الليبي. بعد ذلك، تواصل الإخلاء القسري للتبو من الكفرة إلى جانب تدمير منازلهم، وذلك وفقاً لجمعية الشعوب المهددة، التي وصفت الحكومة الليبية بأنها تنتهج سياسة التطهير العرقي المتعمّد.

 لذلك لم يكن مفاجئاً انضمام التبو إلى الثورة ضد القذافي في وقت مبكر، في حين أن القبائل العربية التي كانت تتمتع بمكانة خاصة عند القذافي في الجنوب – مثل الزوي وأولاد سليمان والكثير من أبناء ورفلة في سبها، ناهيك عن قبيلة القذاذفة – حافظت على ولائها. لكن قبيلة التبو، بانضمامها إلى الانتفاضة، عملت منذ البداية على تأمين مايكفي من التنازلات والتسويات لحماية مصالحها تحسباً لما تخبئه الأيام القادمة. وفي 23 مايو 2011، أصدرت حكومة القذافي قراراً رسمياً بمنح أبناء التبو المسجلين في أوزو حقوق المواطنة بالجملة كوسيلة لكسب دعمهم ضد المتمردين.(20)  وافقت قبيلة التبو على هذا القرار، وحصلت إلى جانب ذلك على كميات كبيرة من الأسلحة من حاكم المنطقة العسكرية في سبها.

مع هذه الامتيازات، بدأت قبيلة التبو على الفور بتأمين مناطقها التاريخية، والإلقاء بثقلها إلى جانب حركة التمرد. وقد حصلت معارك للسيطرة على الكفرة على مدار شهر أبريل، حيث تمكَّن عيسى عبد المجيد من السيطرة بالكامل على المدينة في 6 مايو. وسمح المجلس الوطني الانتقالي لعيسى بمواصلة السيطرة على منطقة الكفرة، التي تمتد إلى الحدود الجنوبية الشرقية مع السودان وتشاد. وفي جنوب البلاد، بدأ التبو بالسيطرة على المناطق الحدودية الجنوبية. ففي يونيو سقطت القاعدة العسكرية في الويغ، جنوب شرق سبها بالقرب من الحدود من النيجر، تبعتها بلدة القطرون الحدودية وهضبة أم أرانب الصحراوية وبلدة زويلة ثم أخيراً بلدة مرزوق. هذا وسقطت سبها نفسها في 20 سبتمبر مع قدوم أعداد كبيرة من قوات المتمردين من الشمال.

 إزاء الفراغ السياسي الذي أعقب انهيار النظام، حاول التبو تعزيز مكاسبهم. وبعد وعود المجلس الوطني الانتقالي، كما زعم التبو، بتنفيذ قرار 23 مايو الذي أصدره القذافي، بدأ التبو بتقديم طلبات المواطنة للحكومة الليبية. وفي الكفرة والقطرون ومرزوق سيطر التبو على المجالس العسكرية المحلية، كما أمَّنوا كميات كبيرة من الأسلحة من قاعدة الويغ الجوية. وقد عاد التبو من تشاد وقطاع أوزو، إلى جانب أولئك الذين تم تسجيلهم في قطاع أوزو في السبعينيات، إلى الكفرة والمعاقل الأخرى الخاصة بالتبو. ومع مقتل القذافي في 23 أكتوبر 2011، سيطر التبو بحكم الأمر الواقع على جزء كبير من الحدود الجنوبية، بما في ذلك المنافذ البرية.

كان من الطبيعي أن يؤدي هذا التغيير في حظوظ التبو إلى توليد العداء لهم بين صفوف العرب الليبيين في الجنوب الذين كانوا لايزالون ينظرون إلى التبو على أنهم غير ليبيين. وقد كان للمنافسات الاقتصادية على ممرات التهريب أثرٌ مدمر عندما تقاطعت مع التوترات المتعلقة بقضايا العرقية والمواطنة. ففي الكفرة أدى استيلاء عيسى عبد المجيد منصور على المناطق الحدودية إلى الإخلال بتوازن القوى مع الزوي، الذين كانوا في عهد القذافي يجمعون الرسوم الجمركية على البضائع المهرَّبة ويتولون إدارة بعض الملاجئ الآمنة للعصابات. كان حادث إطلاق النار، الذي نجم عنه وفاة رجل من الزوي على أيدي ميليشيا من التبو في أوائل فبراير 2012، أدى إلى إشعال صراع شامل بين الزوي والتبو، حيث تصاعدت وتيرته بسرعة حتى وصل إلى استخدام القذائف الصاروخية والأسلحة المضادة للطائرات.(21)  أما وقف إطلاق النار الذي جاء نتيجة وساطة من قبل بعض الوجهاء المحليين فقد انهار مراراً وتكراراً خلال أبريل ويونيو 2012 بسبب نزاعات مماثلة.

وفي مارس 2012 اندلع نزاع آخر في سبها عندما وجَّه أشخاصٌ من قبيلة أولاد بوسيف، وهي قبيلة عربية، اتهاماً لأحد أبناء التبو بسرقة سيارة. وقد تدخَّل في هذا النزاع المجلس العسكري المحلي، الذي تهيمن عليه قبيلة أولاد سليمان، التي كانت قد أيدت ما ارتكبه القذافي من تهميش بحق التبو خلال الثمانينيات والتسعينيات. ومازاد من سوء هذا الوضع هو أن سلطات المجلس المحلي زعمت أن التبو وأولاد سليمان كانوا في الوقت نفسه في حالة تنافس على التجارة عبر الحدود، حيث تقوم جماعات مسلحة من الجانبين بالاستيلاء على قوافل تابعة لكلٍّ منهما. وقد تدهور اجتماع المصالحة الذي خُطِّط لعقده في قاعة الشعب فتحوَّل إلى تبادل لإطلاق النار، أعقبه خمسة أيام من القتال العنيف. فقام مواطنون من مختلف أنحاء سبها بالهجوم على مدن الصفيح التابعة للتبو وقصفها، حيث قُتل ما لايقل عن 147 شخصاً وجرح نحو 500. (22)

 وقد أدت تلك الاشتباكات إلى استقطاب القبيلتين وجعل المناطق الحدودية في ليبيا أكثر استعصاءً على السيطرة. وقد شعرت مجموعات التبو العسكرية بأن الجيش الليبي، والذي لحق بقوات درع ليبيا إلى الكفرة لمراقبة اتفاقيات الهدنة في كلتا المدينتين في أوائل مارس 2012، كان يحابي سراً العرب الليبيين على حسابها. أما قوات درع ليبيا فقد اتُّهمت أيضاً بالانحياز لخطها الحزبي.(23)  وفي ظل وجود مخاوف من قيام عناصر من كلا الطرفين باستخدام الفراغ الأمني لشن عملية تطهير عرقي للتبو من المنطقة، فقد تشبثت ميليشيات التبو بقوة بأرضها وبأسلحتها. وتحوَّل عيسى عبد المجيد منصور نفسه من حليف للمجلس الوطني الانتقالي في المنطقة إلى خارج على القانون، عندما رفض أتباعه وضع أسلحتهم، مفضلين الهروب بدلاً من ذلك إلى المناطق الحدودية. ولذلك كان من الصعب دحض الاتهامات التي وجهتها وسائل الإعلام الليبية إلى التبو بتلقي الدعم من قبل الجماعات المسلحة التشادية والسودانية، علماً أنها قد تكون اتهامات غير صحيحة إلى حد كبير (وقد أشار أحد أبناء التبو إلى أن التبو الليبيين كانوا أفضل تسليحاً من نظرائهم الجنوبيين).(24)  وهذه الاتهامات تثير أيضاً السؤال الأولي المُفَخَّخ حول مَن من التبو يمكن اعتبارهم “ليبيين” ومن منهم ليسوا كذلك.

وفي حين أن العواقب الأمنية المترتبة على إعادة دمج التبو تبدو اليوم شديدة الوضوح في الجنوب – حيث لاتزال المناطق الحدودية لليبيا من النيجر وصولاً إلى السودان خارج سيطرة الدولة إلى حدٍّ كبير – فإن العواقب السياسية تبدو أخف وطأةً. فقد تنظَّم أبناء التبو سياسياً، وأصبح لهم مكاتب في طرابلس تكرس جزءاً يسيراً من جهودها للضغط على الحكومة، لكن مطالبهم السياسية تكاد لاتتعدى إصلاح قضايا المواطنة وتوفير وظائف وخدمات أفضل. أما الانفصال عن، أو التوحّد مع، مناطق التبو في الدول المجاورة فهو هو أمر مستبعد إلى حد كبير؛ إذ أن المناطق التي يقطنها التبو فقيرة بالموارد، كما لاتوجد طرق أو أي شكل من أشكال البنية التحتية تصل في مابينها، بالرغم من كونها متجاورة.

ويزعم التبو أيضاً أن احتمالات التطرف ضد الدولة تبدو متدنية. فقد أكد بعض نشطاء التبو، في مقابلات مع المؤلف، بأن العام 2004 شهد محاولة مزعومة من قبل عبد الرازق البراق، وهو رسول يعمل لصالح تنظيم القاعدة، لاستطلاع ولاءات التبو، ولكن يبدو أن التبو كانو غير مهيئين لمثل هذه الجهود. وقد شهد نزاع 2011 في الجنوب عودة وصعود العديد من المقاتلين والمجاهدين السابقين في أفغانستان – فقد شهدت الكفرة في شهر مايو، على سبيل المثال، عودة مصطفى بو جفول، وهو مجاهد من بنغازي ينتمي إلى قبيلة الزوي، وقد سبق له أن قاتل في أفغانستان حيث قُتل في وقتٍ لاحق في سرت. لكن عدد المجاهدين العائدين، الذين ينتمون إلى قبيلة التبو، قليل جداً إن لم يكون معدوماً، في حين أن العديد منهم ينتسبون إلى قبائل عربية تقيم في الجنوب. ولذلك من المستبعد نسبياً أن يتم تدويل قضايا التبو، الأمر الذي يزيد من فرص أن يكون إيجاد حل سياسي لتلك القضايا ضمن متناول الحكومة الليبية.

قبيلة الطوارق

واجهت قبيلة الطوارق أيضاً التمييز، الذي حملته إليها ظروف تاريخية مختلفة. فقد هاجر عدد كبير من الطوارق إلى ليبيا في السبعينيات في أعقاب الجفاف واسع النطاق الذي ضرب منطقة الساحل والاضطهاد السياسي الذي تعرّضوا إليه في مالي.(25)  فجذورهم البربرية (حيث إن اسم الطوارق مشتق من طرقة، وهو الاسم الذي يطلقه البربر على محافظة فزان) كانت تتعارض مع إصرار القذافي على الهوية العربية لليبيا. على أية حال، مع “استدارة” القذافي نحو القارة الأفريقية كمصدر للدعم السياسي والنفوذ الاقتصادي إبان التسعينيات، عندما كانت ليبيا تحت العقوبات الغربية، بدأ على نحو متزايد بتجنيد الطوارق الذين يتحدرون من أصول مالية ونيجرية ضمن القوات المسلحة، حيث كان الطوارق يتطوعون ضمن الكتائب الدائمة. وكان من بين تلك الكتائب كتيبة طارق، ومقرها في الأوبري، وكتيبة فارس، ومقرها في سبها، وبدرجة أقل كتيبة 32 أو كتيبة خميس المعروفة، التي يقودها خميس القذافي، أحد أبناء القذافي. كان الطوارق يشكلون جزءاً من الفيلق الإسلامي الذي لم يعمر طويلاً، وهو أحد المشاريع العسكرية التي أطلقها القذافي في وقت مبكر، وكانت تهدف أصلاً الى توحيد منطقة الساحل، حيث جرى نشر هذا الفيلق على نطاق واسع داخل الأراضي التشادية في الثمانينيات، كما تشكلت من الطوارق كتيبة ثانية من هذا النوع يصل قوامها إلى نحو 5000 عنصر وحملت اسم الكتيبة السوداء، وقد نُشرت أيضاً، وفقاً لبعض المراقبين، في تشاد.(26)  وأدّت عمليات التمرد المتعاقبة التي قام بها الطوارق في مالي والنيجر خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى إقامتهم علاقات أوثق مع حكومة القذافي، حيث كان القذافي يدعم الطوارق بوصفهم وسيطاً مع الحكومتين النيجيرية والمالية.  مع أنه لايمكن القول إن القذافي سلّح الطوارق بسخاء، فإنهم سعوا بكل تأكيد للحصول على هذا الدعم من نظامه، وحدثت موجات أخرى من التوطين والدمج في القوات المسلحة الليبية خلال العقد المنصرم. في العام 2005، قدم القذافي فئة منفصلة وناقصة من المواطنة كانت تستهدف، في الواقع، هؤلاء الطوارق في المقام الأول. ظلت العلاقات مع الجماعات العربية المجاورة متوتّرة، كما هو الحال مع التبو، ولكن بتعقيدات إضافية جعلت الكثير من الليبيين يعتبرون أن الطوارق كانوا يدعمون النظام طيلة فترة الانتفاضة ضد القذافي. في الواقع، على رغم أن بعض الطوارق أتوا من النيجر ومالي كي يقاتلوا في صفوف الجيش الليبي مقابل أجر، فإن مثل هذه التجارب لم تدم طويلاً بالنسبة للكثيرين. وبينما قاتل بعض الموالين حتى النهاية، فإن الكثير من الطوارق الذين كانوا قد استقرّوا في ليبيا، وحتى جنّدوا في القوات المسلحة، انتقلوا إلى مالي وأماكن أخرى بعد فرض الناتو منطقة حظر جوي فوق ليبيا في مارس 2011. وبما أنهم أقل استقراراً من التبو، إلى حدّ ما، فقد كان بوسع الطوارق التخّلي عن وظائفهم – وقد فعلوا – في القوات المسلحة ومغادرة البلاد. ومع أن الكثيرين غادروا، فقد بقي العديد من المجتمعات المحلية في الجنوب الغربي، وكما هو الحال مع التبو، وهي تتعرّض للهجوم بدوافع عرقيّة.

ترتبت على هذا الوضع آثار في جميع أنحاء المنطقة. في مالي على وجه الخصوص، أجّج مقاتلو الطوارق العائدون تمرّداً في شمال البلاد وأقاموا علاقات مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي،(27)  معتمدين على الدعم القوي من الطوارق في بلدان أخرى، مثل مالي. في المقابل، تمكّن الطوارق الليبيون من تزويد الطوارق الآخرين – وفقاً لمن لديهم معرفة في السوق السوداء في سبها، وكذلك مايمكن استخلاصه من تمرّد الطوارق في مالي العام 2012(28)- بأنواع الأسلحة التي سعى الانفصاليون منذ فترة طويلة للحصول عليها من نظام القذافي دون جدوى.

في حين دخل التبو في صراع دموي مع جيرانهم العرب العام 2012، لم يدخل الطوارق في الغالب في مثل هذا الصراع. ويعود هذا، على الأقل جزئياً، إلى أن المدن القليلة التي فيها عدد كبير من السكان الطوارق، مثل الغاط وأوباري في أقصى الجنوب الغربي، لم يكن فيها عدد كبير من السكان العرب الليبيين. ومع ذلك، فقد عانى الطوارق من فكرة أنهم قاتلوا إلى جانب القذافي، وبالتالي واجهوا التمييز والهجوم في حقبة مابعد القذافي، في بلدة غدامس في أقصى الغرب، حيث يقيم الطوارق والعرب الغدامسية (السكان المحليون لغدامس) حيث دخل هؤلاء في صراع فور سقوط طرابلس. هناك، كان للغدامسية جماعتهم المسلحة التي كانت تتمتّع بدعم المجلس الوطني الانتقالي، وبالتالي فقد أنشأوا مجلسهم العسكري والمحلي الخاص لتنظيم شؤون المنطقة. هاجم الطوارق المدينة في سبتمبر 2011، مدّعين أن الغدامسية كانوا يدمّرون المنازل ويقومون بعمليات اعتقال جائرة، حيث لقي سبعة أو ثمانية أشخاص حتفهم في القتال الذي اندلع بعد ذلك.(29) وقد بقيت الأسباب الجذريّة للصراع – أو وضع المجالس أو المخالفين الذين رغب كلا الجانبين في أن يقدّموا إلى العدالة – من دون حلّ واستمرت الصدامات خلال النصف الأول من العام 2012.

 يفضّل الطوارق في غدامس الاعتماد على الحكم الذاتي الفعلي وعلى تأمين دفاعاتهم الخاصة بدلاً من وضع ثقتهم في الحكومة المؤقّتة أو في محاولات وجهاء المجتمع المحلي للتفاوض حول السلام بين الطوارق والغدامسية، والتي لم تسفر خمس منها عن شيء.(30)  وبينما سُمِح للنساء والأطفال بالبقاء في غدامس لاستخدام المدارس والمرافق، فقد تم طرد معظم الرجال وانتقلوا إلى البلدات الصغيرة المجاورة.(31)  وفرّ آخرون إلى الجزائر أو أبعد من ذلك. ويعلّق الطوارق آمالهم على إنشاء مدينة جديدة بالكامل، والتي يسمونها الوال، باعتبار ذلك الحلّ الوحيد القابل للاستمرار. ويشير بعض ممثّلي الطوارق والقادة المحليين، إلى أن تمرّد الطوارق في مالي سيساعد في الحيلولة دون المزيد من تهميشهم أكثر من أي مبادرة للسلام، وهم يكدّسون الأسلحة وفقاً لذلك.

الخلاصة

تتطلّب معالجة الحوافز الاقتصادية التي ينطوي عليها التهريب وفساد حرس الحدود المحلي، والاستيلاء على المراكز الحدودية من قبل الجماعات المسلحة، التعاطي مع القضايا الاجتماعية والاقتصادية العميقة والصعبة التي أصابت منطقة جنوب ليبيا طالما قائمة. ومن شأن الحلول الأمنية المتنافسة – سواء عالية أو منخفضة التكنولوجيا – التي عرضتها بلدان مختلفة على الحكومة الليبية أن تخفّف من وطأة المشكلة، بيد أنه يمكن تخريب أي حلّ أمني إذا ما أجبرت الحوافز الكافية الجهات المعنية على القيام بذلك.

يتطلّب تأمين حدود البلاد الشاسعة بالتالي إصلاح القطاع الأمني وإضفاء الطابع الرسمي عليه، وكذلك الاستثمار في المعدات والتدريب والبنية الأساسية لمراكز الأمن الحدودية. كما أن من المهم إصلاح النظام الإداري في البلاد، بحيث يمكن وضع حدود واضحة للسلطة داخل وبين الإدارات لأول مرة، ويبدأ وزراء الحكومة في التعاون على المستوى التنفيذي. ويمثّل مشروع صياغة الدستور الذي توشك ليبيا على الانخراط فيه فرصة ممتازة لتوضيح حدود السلطة على المستوى الوزاري وإنشاء المؤسّسات الضرورية الجديدة.

إن وجود حدود أوضح للسلطة وقوى عاملة مجهّزة بشكل أفضل، سيساعد على إعطاء قوات الأمن في ليبيا بعض الزخم. غير أن التعامل مع الكتائب المسلحة التي يجب على قوات الأمن أن تعمل بالتوازي معها يمثّل قضية أعمق. فقد شجّع الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي يوم 11 سبتمبر 2012، الحكومة الليبية على اتّخاذ خط أكثر تشدّداً مع الكتائب، لكن المسألة في الجوهر لاتتعلق بالصرامة، بل بالسياسة. مبرّرات الكتائب للبقاء بعيدة عن الدولة عديدة، لكن الموضوعات الأكثر شيوعاً هي عدم الثقة في أن الدولة الجديدة معدّلة (منصلحة) بما فيه الكفاية عن القديمة، وعدم احترام “ضعف” الجيش والشرطة، وفي حالة جماعتي التبو والطوارق، أن مجتمعاتهم تواجه تهديداً بدوافع عنصرية. ويجب إزالة تلك المبرّرات، واحداً تلو الآخر.

يجب أيضاً إلغاء الحوافز الاقتصادية المقدمة للمجتمعات المحلية لالتماس الدخل من التجارة عبر الحدود. وهذا ينطوي على رعاية التنمية ومعالجة القضايا الاجتماعية التي أُهملت منذ إنشاء ليبيا كدولة حديثة. ويجب معالجة مطالبات التبو والطوارق بالجنسية بصورة كلية، ويجب أن تقدم لكلا الجماعتين حصة سياسية واقتصادية في ليبيا الجديدة، بما في ذلك توفير برامج التعليم وفرص العمل. ويجب أن ينتهي فرض الرسوم والجمارك من جانب شرطة الحدود، وتعطيل المسافرين التعسّفي، أحياناً، لأيام عدة، حيث إن جميع هذه الأشياء تشجّع على استخدام ممرات غير رسمية حول المراكز الحدودية. ويجب تعويض أولئك الذين جرّدوا من جنسيتهم لأسباب سياسية على مايبدو، بينما يستمرّون في العمل بعقود قانونية مع الدولة الليبية، بشكل مناسب. ويجب أيضاً أن يستند استخدام المواطنين الطوارق والتبو غير الليبيين (أو الملتبسين من الناحية القانونية) كمساعدين في صفوف القوات المسلحة والشرطة، إذا كان له أن يستمر، إلى أساس قانوني واضح من أجل وضع نهاية لتشجيع حكومة القذافي الضمني وتلاعبها في مثل هذه القضايا لأغراض سياسية.

ينبغي أن يكون الهدف النهائي لليبيا هو أن تقوّض وتلغي بحزم الحوافز الراسخة للانخراط في النشاط غير القانوني أو شبه القانوني عبر الحدود، وهو الأمر الذي لايمكن تحقيقه إلا من خلال خلق جنوب مستقرّ ومزدهر. فقد فتحت الصراعات الأخيرة في البلاد أعين العديد من المسؤولين الليبيين والمفاوضين بشأن الصراع، في بعض الحالات، للمرة الأولى. يجب ألا تغيب هذه الصراعات عن البال عندما تبدأ حكومة ليبيا الجديدة التعامل مرة أخرى مع حدودها.

محصلات

– توفير تنسيق أفضل داخل مؤسّسات الدولة يمثّل خطوة أولى حاسمة. يجب على الإدارات التابعة لوزارتي الداخلية والدفاع العمل معاً لتأمين حدود ليبيا. وينبغي تحديد الصلاحيات داخل وبين الإدارات بشكلٍ واضح، ويتيعّن على وزراء الحكومة البدء في التعاون على المستوى التنفيذي. وتنسيق السياسات والممارسات على نحوٍ أفضل بين المدن والمراكز الحدودية.

– يجب على الدولة التغلّب على استقلال الكتائب على الحدود. هذه مشكلة سياسية جوهرية تحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد كبح جماح الكتائب. إذ يجب على الدولة أيضاً القيام بإصلاح حقيقي وتطوير مؤسساتها الأمنية لاستعادة ثقة واحترام الكتائب.

– يجب على الحكومة اتخاذ خطوات جريئة لدمج القبائل المهمَّشة في المجتمع الليبي. يتعيّن إزالة الحوافز الاقتصادية التي تدفع القبائل المحلية إلى البحث عن دخل من خلال التجارة العابرة للحدود، وذلك عبر تحفيز التنمية المحلية ومعالجة المظالم الاجتماعية. سوف يتطلب ذلك، على وجه الخصوص، إنشاء المزيد من المؤسسات الحكومية القوية في جنوب وشرق ليبيا.

***

هوامش وإحالات:

1- كثيراً ماتوصف الجماعات المسلحة في ليبيا عبر وسائل الإعلام بـ”الميليشيات”. ومع أنها تسمية ملائمة، إلا أنه يمكن القول إنها تتسم بالتضليل وعدم الدقة. في السياق الليبي تُستخدم كلمة ميلشيات حصراً لوصف مجموعة ليس لها صفة الدولة، في حين أن الجماعات الليبية المسلحة (الكتائب) إما نشأت كجزء من الجهد الثوري أو أنها تشكلت بموافقة، إن لم يكن بمباركة من المجلس الوطني الانتقالي ووزارتي الدفاع والداخلية. كما أن أياً من هذه الجماعات لا يتمتع بمدنية حصرية، نظراً لوجود العديد من ضباط الجيش السابقين ضمن صفوفها. وبما أنها تُسمى في ليبيا بـ”الكتائب”، فإنه يتم استخدام التسمية نفسها هنا. للحصول على المزيد من الدراسات التصنيفية حول الجماعات المسلحة في ليبيا انظر:

International Crisis Group, Divided We Stand: Communal Conflict in a Fragmented State, forthcoming; and Brian McQuinn, “Capturing the Peace,” Small Arms Survey 2012.

2- لاحظَ الاتحاد الأوروربي، الذي أجرى تقييماً للاحتياجات في أعقاب الثورة، التي تعرضت المخافر الحدودية خلالها للنهب، وجود عجز مماثل في الطاقة الاستيعابية. راجع دراسة للاتحاد الأوروبي بعنوان (تقييم احتياجات ليبيا للإدارة المتكاملة للحدود)، والصادرة في 31 مايو، 2012.

3- المصدر نفسه.

4-  For further details, see European Union, Integrated Border Management.

5- بما أن ليبيا لم تصادق على اتفاقية الأمم المتحدة للعام 1951 بشأن اللاجئين (اتفاقية جنيف) أو على البروتوكول الصادر عنها العام 1967، فإنها لم تبذل الجهود للتنسيق أو الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي. ونادراً ما كان يتم تعريف المهاجرون بحقوقهم أثناء الاعتقال، كما لم يكن هناك أساس قانوني لتطبيق الحقوق كما يحددها القانون الدولي، أما المسؤولية عن احتجازهم ومدة ذلك الاحتجاز فلم تكن محددة. وحسب التقارير الواردة من المندوب السامي لشؤون اللاجئين ومن منظمة العفو الدولية، فإن عمليات الضرب والاغتصاب وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان بقيت مستمرة. المصدر نفسه.

6- Luiza Bialasiewicz, “Borders above all?” Political Geography 30 )2011(: 299-300; Amnesty International, “Libya of Tomorrow: What Hope for Human Rights?” For a summary of European policy on the outset of the 2011 conflict in the light of its reliance on Qaddafi for border security, see Nicole Koenig, “The EU and the Libyan Crisis: In Quest of Coherence?” Istituto Affari Internazionali Working Paper 11/19 )July 2011(.

7- See Frederic Wehrey, “The Struggle for Security in Eastern Libya,” Carnegie Paper, Carnegie Endowment for International Peace, 2012, http://carnegieendowment.org/files/libya_security_2.pdf.

8- Wolfram Lacher, “Organized Crime and Conflict in the Sahel-Sahara Region,” Carnegie Paper, Carnegie Endowment for International Peace, 2012, http://carnegieendowment.org/files/sahel_sahara.pdf.

9- لدراسة حالة عن كيفية حصول هذه العملية في مصراتة، أنظر McQuinn, “Capturing the Peace”

10-  For more on this process, and on the emergence of local military councils and other armed groups, see International Crisis Group, Divided We Stand

11- وثائق وزارة الدفاع رآها الكاتب، سبها، أيار/مايو 2012، وزوارة، أيار/مايو 2012.

12- أنظر الملاحظات من مقابلة تلفزيونية مع وزير الدفاع بُثت عبر قناة ليبيا الحرة في 28 نيسان/أبريل 2012، حيث تم تزويد المؤلف بها في وقتٍ لاحق.

13- See “Libya Government Takes Control of Tripoli Airport,” Agence France-Presse, April 20, 2012,www.google.com/hostednews/afp/article/ALeqM5gncFJ7cqs4lduDcUVQp54zuwsJVA?docId=CNG.fbce75d2eba2ecc24710f72328c3b9d9.301.

14- مشاهدات المؤلف، مطار طرابلس الدولي، أغسطس 2012.انظر أيضاً J. Cole, J. “Despite Airport Incident, Henry Kissinger Is Wrong About Libya,” Informed Comment blog, http://www.juancole.com/2012/06 /despite-airport-incident-henry-kissinger-is-wrong-about-libya.html

15- See European Union, “Integrated Border Management.”

16- المصدر نفسه.

17- المصدر نفسه.

18- راجع “مصلحة الإحصاء والتعداد” في ليبيا، 1954.

19- For more on Libya’s Chad campaign, see Kenneth Pollack, “Arabs at War: Military Effectiveness, 1948-91,” Studies in War, Society and the Military, 1991.

20- وثيقة شاهدها المؤلف، أيار/مايو 2012

21-  Wehrey, “The Struggle for Security in Eastern Libya.”

22- See “Libya Names Military Governor in Conflict-Ravaged South,” Bloomberg, April 1, 2012, http://www.bloomberg.com/news/2012-04-01/libyan-tribal-clashes-leave-147-dead-health-minister-says.html

23- See International Crisis Group, “Divided We Stand: Libya’s Communal Conflicts,” Middle East/North Africa Report )forthcoming(, published at http://www.crisisgroup.org.

24- Frederic Wehrey, “The Struggle for Security in Eastern Libya.”

25- For background, see International Crisis Group, Mali: Avoiding Escalation, Africa Report no. 189 (2012(.

26- Interview with author of International Crisis Group report, Mali: Avoiding Escalation, August 31, 2012. See also International Crisis Group, Mali: Avoiding Escalation

27- Wolfram Lacher, “Organized Crime and Conflict in the Sahel-Sahara Region.”

28- See International Crisis Group, Mali: Avoiding Escalation, for background on the consequences of the 2011 Libyan conflict on the 2012 Tuareg rebellion in Mali.

29- مقابلة أجراها المؤلف مع وسيط أجنبي في الصراعات في غدامس، أيار/مايو 2012.

30- Rebecca Murray, “Tackling Conflict on Libya’s Margins,” Al Jazeera, August 10, 2012,

http://www.aljazeera.com/indepth/features/2012/08/201287122322275927.html

31- Ibid.


[1] – بيتر كول محلّل أول سابق خبير بالشؤون الليبية في مجموعة الأزمات الدولية ICG أثناء الثورة ومانتج عنها من حكومة انتقالية، حيث عمل على تقديم معلومات أساسية وتحليلات للسياسات إلى الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والحكومات، والشركات، والمنظمات غير الحكومية، ومعظم وسائل الإعلام الرئيسة. أجرى عملاً ميدانياً طوال ثلاثين شهراً في ليبيا، ووضع تقريرَين لمجموعة الأزمات الدولية هما: “نقف معاً منقسمين: استمرار الصراعات في ليبيا” Divided We Stand: Libya’s Enduring Conflicts، و”المحافظة على وحدة ليبيا: التحديات الأمنية في حقبة مابعد القذافي” Holding Libya Together: Security Challenges After Qadhafi.

قبل انضمامه إلى مجموعة الأزمات الدولية، حاز كول ماجستير فلسفة في الدراسات الشرق أوسطية الحديثة من جامعة أوكسفورد، مع تركيز على الفساد وإدارة الثروة السيادية الليبية. وعاد إلى ليبيا في شهر نوفمبر الماضي مع “مشروع مسح الأسلحة الصغيرة” Small Arms Survey للعمل على نحو معمَّق على اللجنة الأمنية العليا وديناميكيات المواجهة مابين المجموعات المسلحة في الشرق لاحقاً في العام 2012. ويشارك كول أيضاً في وضع كتاب عن تاريخ الثورة الليبية يحمل عنواناً مؤقّتاً هو “ثورة ليبيا والانتقال” Libya’s Revolution and the Transition، وسيصدر عن منشورات Hurst/Oxford University Press.

About A. Monem

supervisor
هذا المنشور نشر في مقالات. حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق